إجماع واشنطن وإجماع بكين بين الاستبداد الاقتصادي الأجنبي أو الاستبداد السياسي الوطني

12.04.2014

يعتقد معظم الليبيون وخاصة صناع القرار وأصحاب الإعمال بان تقليص دور القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص وخصخصة مؤسسات الدولة، وزيادة جذب رأس المال الأجنبي الحل الناجع لتحقيق النمو الاقتصادي! هذه النظرة المتفائلة لدور القطاع الخاص والتنديد بدور الدولة جاءت كمحصلة أو ردة فعل لدور المركزي الذي لعبه النظام خلال العقود الأربعة الماضية سواء في الميدان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي وغيره. وهذا ما حدث بالفعل .. فلقد تصدرت الدولة بالسابق القيادة في توجيه عملية النشاط الاقتصادي؛ و حسب المعطيات على ارض الواقع لم تكن قادرة على تحقيق وتلبية رغبات المواطن بل كانت عائقا وسببا رئيسيا في فشل البرامج التنموية بليبيا.
ولكن.. إذا كان القطاع العام سببا في ارتفاع معدلات البطالة وتدني الإنتاجية والتضخم، وعجز ميزان المدفوعات، وفي وجود البيروقراطية وإدارة المؤسسات بشكل غير كفء وغير مرن! فهل القطاع الخاص هو البديل ؟ هل هو قادر على بناء اقتصاد وطني، ويتبني خطط تنموية طويلة المدى، ويُؤمن زيادة مستمرة في النمو وفي معالجة البطالة وقادر على المنافسة وتمويل المشاريع الأساسية للبنية التحتية؟
من المعلوم أنه بحلول أوائل التسعينات من القرن الماضي، اتفق معظم الاقتصاديين الغربيين بشأن ما هو المطلوب عمله لإنعاش النمو في الدول النامية. وأُطلق على هذه السياسة العامة اسم ” إجماع واشنطن “.
إن الفلسفة التي يتبناها إجماع واشنطن هو علاج ما أصاب دول العالم النامي من تراكم الاختلالات في الاقتصاد الكلي وغيرها من المشكلات التي صاحبت استراتيجيات النمو التي تبنتها الدول النامية في السبعينيات والثمانينات، فكان المقترح هو ” التثبيت ” على مستوى الاقتصاد الكلي، والذي يعقبه ” التكييف الهيكلي ” على مستوى الاقتصاد الجزئي، أي يدعوا إلى التحول من اقتصاد قائم على التخطيط المركزي إلى اقتصاد تحكمه حرية السوق ؛ بحجة أن القطاع الخاص يقود إلى النمو بطريقة أفضل من الدولة.
ولو قمنا بتحليل عميق لإجماع واشنطن لاكتشفنا إن الهدف الحقيقي منه هو تضييق الخناق عن الدور الاقتصادي للدولة، وإعطاء المبادرة والأولوية للقطاع الخاص، والهيمنة الاقتصادية لشركات الأجنبية التي تعطي لنفسها تحديد نوع البرنامج التنموي بصوره مستقلة، بل الإشراف بشكل مباشر على تصميم البرنامج وتنفيذها! وتتجاوز حدودها تصل إلى محاسبة الحكومة الوطنية وتتدخل أيضا حتى بالقرارات السياسية وتمارس ضغوط اقتصادية بعدما تسيطر على الموارد الطبيعية.
وفُرض إجماع واشنطن على معظم الدول النامية التي كانت تحتاج إلى اقتراض وتمويل، وخرجت من تطبيقاتها لهذه السياسات بالمزيد من الأزمات الاقتصادية وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، بل من ابرز النتائج المترتبة على تطبيق هذه السياسات تدهور مريع في أوضاع ذوي الدخل المحدود والمتوسط ، وذلك بسبب سياسة تثبيت الأجور ونقص في الإنفاق العام كنتيجة لانخفاض الإيرادات بعد خصخصة المؤسسات! وهذا بالضرورة يتناقض مع أيديولوجية أي حكومة وطنية تدعو وتحرص على توسيع وتعزيز دور هذه الفئة من المجتمع.
مقابل إجماع واشنطن 1990، يوجد ما يسمى بإجماع بكين 2004 وهي صيغة أنيقة لوصف الأنظمة المستبدة التي تتباهى بالنظام القائم على الرأسمالية والحزب الواحد في آن. ولقد شدد إجماع بكين على الإبداع ودعم البحوث والتجارب الإبداعية؛ كما أكد على أهمية وجود الاستقلالية في اتخاذ القرارات، وعدم الاكتفاء بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي كمقياس للنمو الاقتصادي. كما نلاحظ إن برنامج إجماع بكين ينحاز كثيرا لتقارير برنامج الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية البشرية المستدامة كالعدالة في توزيع الدخل والمساواة والنوع الاجتماعي وغيرها، ولكنه مبطن بالاستبداد السياسي ، حيث تظل الدولة عاملا اقتصاديا مهيمنا ضد الديمقراطية ولكن في خدمة الرأسمالية. ستيفن هالبر في العام 2010، نشر بحثا تحت عنوان “إجماع بكين” بين فيه أن “الصين تبرهن أن نظاما قائما على الحزب الواحد والمبادرة الحرة ومن دون حريات عامة، يمكن أن يكون بديلا قابلا للحياة وقوياً للنموذج الأميركي القائم على حكم المواطنين”. وحسب التجارب العالمية في الدول النامية التي سارت في تجاه تبني برامج بكين نجد إنها اجتازت الأزمات، وحققت النمو الاقتصادي المنشود؛ ولكن صدرت رؤية سياسية جديدة نتيجتها إعطاء الشرعية من جديد للاستبداد والتدخل الحكومي.
وأخيرا أود القول إن الخلل التراكمي بليبيا لا يمكن أن يعالج دفعة واحدة، وإنما بالتدريج زمنيا وقطاعيا. وعلى الخبراء بليبيا إن يعلموا إن كلا من إجماع واشنطن وبكين ما هو إلا حرب باردة بين قطبين بارزين اقتصاديا ويحتلان المرتب الأول والتاني على التوالي بالعالم! وعلينا أن نتعلم من التجارب الوطنية السابقة واستخلاص المناسب والملائم لمجتمعنا وخلق جملة من السياسات الوطنية الذاتية تراعي خصوصيات المجتمع وأنماط الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد المحلي، وبمنهج مرحلي في إطار تخطيط ديناميكي شامل لكل القطاعات، وترك خيارات متعددة ومفتوحة بشأن دور الدولة ومؤسساتها، وضرورة التوقف جديا أمام الانجرار وراء سياسات التخصيص لمؤسسات الدولة التي تقدم خدمة للمواطنين، كالموانئ والكهرباء والنظافة والنقل العام والصحة والتعليم وغيرها، والعمل وبجدية على زيادة دعم مراكز البحت والتطوير. ولو حرصنا ” وما أكثر حرصنا بجذب المستثمر الأجنبي” علينا أيضا أن نراعي التباينات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية! وعدم إفساح المجال لهم بفرض وجهات نظرهم على السياسات الاقتصادية الوطنية. والعمل على خلق حاله من التنافس مابين القطاع الخاص والعام في النشاط الاقتصادي؛ وليكن الهدف الاستراتيجي هو الرفع من جودة الحياة للمواطن؛ حينئذ ستحقق ليبيا نموا اقتصاديا واستقرارا سياسيا شامل ومستديم

د. حميدة ميلاد أ بورونية